سلمان أبو ستّة: أوسلو أسوأ من بلفور، والعودة ممكنة | حوار

سلمان أبو ستّة | Bout Yeh

 

* حروب الإبادة الطبّيّة الجسمانيّة ليست موتًا مُطلقًا؛ بل هي نوع من الإماتة البطيئة للمجتمع الفلسطينيّ.

* من الضروريّ استعادة ما سُرِقَ منّا من وثائق وحقائق حول بلادنا ما قبل النكبة عام 1948.

* ثورة المعلومات فضحت زيف الدعاية الصهيونيّة في أوساط الشباب اليهودي الأمريكي.  

* الوقت قد حان لتنظيف البيت الفلسطينيّ بمكنسة ديمقراطيّة.

 

ولد الدكتور سلمان أبو ستّة عام 1937 في مدينة بئر السبع، وحصل على بكالوريوس في الهندسة المدنيّة من «جامعة القاهرة» عام 1959، وعلى الدكتوراه من «جامعة لندن» في الحقل نفسه عام 1964.

شغل عضويّة المجلس الوطني الفلسطيني بين عاميّ 1974 و1993، كما انتخب رئيسًا للهيئة التحضيريّة لـ«مؤتمر فلسطينيّي الشتات» في إسطنبول عام 2017.

تخصّص أبو ستّة في توثيق النكبة وملفّ اللاجئين الفلسطينيّين، واشتغل على إعداد مئات الأبحاث إضافة إلى ستّة كتب تتعلّق باللاجئين وحقّ العودة؛ ومن بينها «أطلس فلسطين» الّذي جمع فيه العديد من الوثائق النادرة الخاصّة بالقضيّة الفلسطينيّة، حيثُ احتوى على معلومات مفصّلة عن ما يقارب 1600 مدينة وقرية فلسطينيّة.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، نتحدّث مع د. أبو ستّة عن عمل «هيئة أرض فلسطين» الّتي شارك في تأسيسها عام 2000 في لندن، وحروب الإبادة الصهيونيّة المتنوّعة الّتي يشتغل حاليًّا على توثيقها، ومستقبل القضيّة الفلسطينيّة ما بعد «هبّة القدس» الأخيرة.

 

فُسْحَة: عادة ما يُستخدم تعبير "النكبة مستمرّة"، لوصف البنية الاستعماريّة الصهيونيّة الراهنة، فما الّذي تغيّر على أساليب الإبادة الّتي توظّفها الصهيونيّة في حربها على الوجود الفلسطينيّ؟

سلمان: المبدأ الصهيونيّ الثابت هو القضاء على الشعب الفلسطينيّ فعلًا ومجازًا، وتاريخًا، وجُغرافيًّا وهويّاتيًّا. تتغيّر الظروف فتتغيّر الأسلحة المستعملة لتحقيق هذا الغرض، ففي عام 1948 كانت الأسلحة هي القوّة العسكريّة، والمذابح الّتي وصل عددها إلى 150 مذبحة خلال عامَي 1948 و1949، وكذلك طرد الأهالي من ديارهم ومنعهم من العودة؛ عن طريق قتل كلّ من يحاول العودة إضافة إلى تدمير القرى كلّها. بعد ذلك تغيّرت الوسائل، لكنّ المبدأ ظلّ ثابتًا؛ فمثلًا، عند محاولة اللاجئين العودة إلى ديارهم في خمسينات القرن الماضي، كانوا يُقتلون على الفور عن طريق زرع الألغام في طريق عودتهم، ففي غزّة ما بين عامَيّ 1950 و1956، قُتل خمسة آلاف شخص وهم يحاولون العودة. ومن ثَمّ ظهر النقاش حول خطّ الهُدنة (الّذي لا يملك أيّ قيمة قانونيّة على الإطلاق)، الّذي حوَّلَ النقاش من عودة اللاجئين إلى ديارهم إلى الخلاف على خطّ الهدنة. ثمّ جاء الهجوم على مصر في عام 1956، والاستيلاء على مياه نهر الأردنّ والشمال الفلسطينيّ، ثمّ جاءت حرب عام 1967، فأصبح جوهر الموضوع بدلًا من طرد شعب من أرضه، إلى إزالة آثار العدوان أو الاحتلال في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. واليوم يدور النقاش عن تقسيم فلسطين إلى 20% للفلسطينيّين، وبقيّة فلسطين لليهود الّتي هي أرض اللاجئين وحقّهم التاريخيّ للصهاينة، عن طريق الكذبة الكبيرة الّتي هي حلّ الدولتين، وقد استُعمِلت لتثبيت قدم الاحتلال في الضفّة الغربيّة، وحتّى لو نجح مشروع الدولتين فهو لن يحلّ القضيّة الفلسطينيّة الأساسيّة؛ لأنّه يتعلّق باحتلال الضفّة الغربيّة فقط، وذلك ليس جوهر القضيّة؛ فجوهر القضيّة في سطر واحد هو طرد شعبٍ من أرضه، ومقاومة هذا الشعب لمئة عامٍ الآن لاستعادة ذلك الوطن. القضيّة ليست قضيّة احتلال، ولا قضيّة دولة، ولا أبارتهايد؛ هذه كلّها عوامل إضافيّة وظواهر للضغط على القضيّة الأصليّة. إذن، عندما نقول "النكبة مستمرّة"، هي مستمرّة لأنّها لم تتوقّف منذ ستّة وعشرين ألفًا وخمسمئة يومٍ الآن، وهي مستمرّة في القتل، والذبح، والاستيلاء على الأرض ومحو الهويّة. وكما كتبتُ في أماكن أخرى، الحرب الّتي شُنَّت علينا ليست حربًا عسكريّة فقط، بل هي أحد عشر نوعًا من الحروب؛ هي حرب عسكريّة بالطبع، وهي حرب تاريخيّة، وهي حرب جغرافيّة، ومسح أنثروبولوجيّ، وحرب تشويه، وحرب اقتصاديّة، وحرب تشويه جسديّ، وأضيف إليها نوع آخر من الحروب في قطاع غزّة وهو حرب إبادة الأحياء. وذلك يعني أنّ القنّاصة الّذين يقنصون الشباب في ركبهم، يفعلون ذلك حتّى يتحوّل المجتمع إلى مجتمع "مُكَرسَح"، يحوِّل فئة كبيرة من شبابه إلى عالة اقتصاديّة اعتماديّة على الآخرين، وثمّة كتاب سيصدر قريبًا عن حروب الإبادة الطبّيّة الجسمانيّة؛ فهي ليست موتًا مُطلقًا، ولكن هي نوع من الإماتة البطيئة لأنّه يحوّل مجموعات كبيرة إلى عالة على المجتمع تُطالب برغيف الخبز بديلًا عن الوطن. إذن، هي حرب مستمرّة ولم تتوقّف، ولذلك يمكن النظر إلى هذه القضيّة بمنظارين: الأوّل القول بأنّ إسرائيل تسيطر على الأرض منذ ثلاثة وسبعين عامًا، والثاني القول بأنّ الشعب الفلسطينيّ يُقاوم منذ ثلاثة وسبعين عامًا، وإذن، فالصراع لم ينتهِ ولا يزال قائمًا، وإذن، لننظر إلى الوجه المضيء ونقل إنّنا نُقاوم منذ ثلاثة وسبعين عامًا، ولم نرفع راية الاستسلام.

 

فُسْحَة: في حوار سابق مع الروائيّ الفلسطينيّ إبراهيم نصر الله، ظهر سؤال قراءة الشخصيّات والأحداث التاريخيّة وتفكيكها، ما قبل نكبة عام 1948 وخلالها، كإعادة قراءته لشخصيّة فوزي القاوقجي قائدًا وطنيًّا، واستعادة هذه الشخصيّة كإحدى الشخصيّات المتآمرة الّتي كان لها دور كبير في النكبة، وما سبقها من أحداث أدّت إلى الهزيمة في عامَي 1948 و1949. بصفتك مؤرّخًا متخصّصًا في النكبة، هل تعتقد أنّ المؤرّخ الفلسطينيّ قادر على إعادة تفكيك الحدث التاريخيّ وقراءته، بالتوازي مع عمليّة التوثيق؟

سلمان: أوّلًا، لا أوافق على كلمة "مؤرّخ"، لست مؤرّخًا، بل كأيّ فلسطينيّ لديه قضيّة، وعندما يكون لديك قضيّة فإنّك ستستعمل كلّ الأسلحة المتوفّرة لديك لكسب هذه القضيّة، ومهنتي الأساسيّة كما تعرف هي الهندسة، ولكنّ صاحب الحاجة أرعن، فإذا أخذوا بيتك فستريد معرفة كيف أخذوه وما هي قضيّة البيت وستصبح مؤرّخًا. يجب عليك معرفة أين يقع بيتك، وستبحث في الخرائط لتعرف حدوده وتخبر العالم والمحكمة بأنّ هذا بيتي، وإن ظهرت مسائل قانونيّة فستصبح قانونيًّا وتقرأ القانون، وإن احتجت إلى أنصار فستصبح إعلاميًّا لتحشدهم؛ ولذلك صاحب الحقّ سيستعمل كلّ سلاح متوفّر لديه من القانون، والتاريخ، والجغرافيا، والإعلام، وتحشيد الناس لأجل هذه القضيّة. أمّا بالنسبة إلى ما وصفته بالتفكيك، فثمّة ثلاث مراحل أساسيّة؛ الأولى جمع الوثائق؛ لأنّ العدوّ عندما سرق بلادنا سرق معها كلّ الوثائق الّتي تُوثّق كلّ شيء حول التعليم، والزراعة، والصحّة، والموانئ والمطارات، وكلّ شيء. عندما خرجنا، خرجنا بلا شيء عدا ملابسنا وذكرى البلاد في آخر أيّامنا فيها. فإذن، من الضروريّ استعادة ما سرقوه منّا من الوثائق والحقائق حول بلادنا. بعد الانتهاء من عمليّة التوثيق، عليك التحقّق من الوثائق، ومعرفة الجريمة من خلالها، وبذلك تستدعي أنصارًا، سواء شعبيًّا أو أمميًّا. ولكن ثمّة ميدان ثالث، وهو تحويل هذه الحقائق والمعلومات إلى خطّة عمل مستقبليّة، خطّة عمل لاسترجاع الحقّ، فلا يكفي أن تكون بالنسبة إلى الآخرين مسكينًا مظلومًا، بل تحتاج إلى قوّة لاسترجاع الحقّ.

هنا أعود إلى جمع الوثائق، الّتي كنت أجمعها منذ مرحلة الدكتوراة في «جامعة لندن» في عام 1962، من الجامعات والمكتبات الغربيّة، الّتي تحوّلت لاحقًا إلى أطالس عدّة، منها «أطلس فلسطين 1948»، و«أطلس فلسطين 1917-1966» بالعربيّة والإنجليزيّة، و«أطلس فلسطين 1871-1877»، ومن ثَمّ «أطلس العودة». هذه الأطالس يمكن الإشارة إليها بالمعلومات أو الوثائق، الّتي يتبعها لاحقًا حملة إعلاميّة لتبيين هذه الحقائق للناس، فأنشأنا في لندن في عام 2000 «هيئة أرض فلسطين» الّتي تعمل على استعمال هذه المعلومات الّتي تحوّلت إلى محاضرات، وكتب، والعشرات من المقالات الّتي من حسن الحظّ، أو من النتائج الجيّدة لعملنا، أنّ هذه المعلومات كلّها أصبحت متوفّرة لدى الكثير من الجامعات، ودائمًا ما يأتينا طلبة دكتوراة يطلبون منّا بشكل أسبوعيّ معلومات عن فترات وأحداث مختلفة.

المسألة الثالثة تتعلّق بالمستقبل؛ ما هو المستقبل؟ كان السؤال هو كيف يمكن العودة أن تتمّ إلى الوطن؟ في القانون الدوليّ حقّ العودة معترَف به وهو مقدّس وقانونيّ، مقدّس عند كلّ فلسطينيّ وقانونيّ في القرار رقم 194 الصادر عن الأمم المتّحدة. إذن، لماذا لم يُنفَّذ حتّى الآن؟ البعض يسأل كيف يمكن العودة وقد دُمِّرت البلاد والقرى، ونحن أجرينا دراسات مستفيضة خلال السنوات الماضية، وسألنا السؤال الأوّل: من هم الفلسطينيّون؟ وجمعنا معلومات كاملة عن أهالي كلّ قرية، وأين هم الآن، وفي أيّ مخيّم وأيّة بقعة جغرافيّة، لكن يمكن القول إنّ ثمّة سبعين إلى ثمانين بالمئة من الفلسطينيّين نعرف أين هم الآن. إذن، عرفنا من هم أصحاب الحقّ، والآن السؤال: من هم المغتصبون؟ نعرف أنّهم في كلّ مكان من فلسطين التاريخيّة، في كلّ قرية مُدمّرة حدّدنا إن كان ثمّة مستوطنة بُنيت عليها أو لا، ومن أين جاء المستوطنون المقيمون فيها، فوجدنا نتيجة مذهلة، وهي أنّ سبعة وثمانين بالمئة من اليهود في إسرائيل يعيشون في اثني عشر بالمئة من مساحة إسرائيل، وبقيّة الأراضي مسيطَر عليها من قِبَل الجيش والكيبوتسات. إذن، فمعظم البلاد خالية، ولا يزال اليهود يتجمّعون في المناطق الّتي استوطنوها أصلًا أيّام الانتداب وتوسّعت قليلًا. إذن، ثمّة أرض خالية وشعب ينتظر العودة، فماذا علينا أن نفعل؟ هل ثمّة طرق بالإمكان استخدامها لإيصال الأهالي إلى قراهم؟ عندما تضغط زرًّا على الكمبيوتر على موقعنا، ثمّة خرائط تُريك أين تقع القرية، وأين هم أهلها المهجّرون، وكذلك الطرق بين مواقع هجرتهم ومواقع قراهم، وكيف يمكنهم العودة إلى تلك القرى، وكم حافلة تلزم لإيصالهم، وهل يمكن العودة مشيًا على الأقدام، وذلك ممكن في حالة قطاع غزّة، الّتي لو مشى أهالي القرى في الطريق الساحليّ لخمسين أو ثلاثين كيلومترًا لرجعوا إلى قراهم المهجّرة، وكذلك في جنوب لبنان، وشمال طولكرم وجنين، وكذلك في القدس والخليل.

ذلك ما نُسمّيه بإمكانيّة العودة Feasibility of Retune، وقد عُرضت في غير جامعة، ومن ضمنها »جامعة براون» الأمريكيّة، وكُتب عنها في صحف عالميّة كصحيفة «الغارديان» البريطانيّة.

 

فُسْحَة: وهنا يأتي دور مسابقة «هيئة أرض فلسطين» لإعمار القرى الفلسطينيّة المُدمّرة؟

سلمان: لأنّه عندما يصل الناس إلى بيوتهم أو قراهم المدمّرة، عليهم بناؤها من جديد، صحيح؟ وذلك ما عملنا عليه في «هيئة أرض فلسطين»؛ من خلال مسابقة لطلّاب العمارة في الجامعات الفلسطينيّة، والأردنيّة، واللبنانيّة، ونحن الآن في السنة السادسة من المسابقة الّتي تقوم فكرتها على تخصيص قرية فلسطينيّة كمشروع تخرّج معماريّ، ونطلب منهم إعادة تصوّر بنائها لعشرة أضعاف سكّانها في عام 1948. وذلك يشمل تحديث القرى مدينيًّا وصناعيًّا. تُعقد هذه المسابقة في شهر أيلول من كلّ عام، وتُمنح الجوائز للمراكز الثلاثة الأولى. وقبل نحو أسبوع أو أكثر، أعلنت الجوائز لشباب في العشرينات من العمر، أعادوا بناء قرية دُمّرت قبل سبعين عامًا، وكان التصميم مذهلًا للحكّام البريطانيّين. وهذا هو الجزء الثالث من القضيّة، تصوّر المستقبل، وتصميمه معماريًّا وسرديًّا من خلال جمع أهالي قرية فلسطينيّة كقرية لوبيا قضاء طبريّا، وجعلهم يتصوّرون ويستعيدون المكان لإعادة تصميمه الآن في المستقبل.

 

فُسْحَة: شدَّدت من قبل على أهمّيّة التعليم بما يتعلّق بحقّ العودة وتدريس التاريخ الفلسطينيّ، لكن، اليوم في الضفّة الغربيّة نشهد، بطريقة أو بأخرى، هجومًا على المناهج التربويّة والتعليميّة؛ لجعلها أكثر ليبراليّة أو نيوليبراليّة لتنشئة جيل اقتصاديّ مستعدّ لسوق العمل، دون أهمّيّة تُذكر للتاريخ أو البناء الهويّاتيّ للشخصيّة الوطنيّة. هل يشكّل ذلك تهديدًا لصفة اللجوء وهويّة اللاجئ الفلسطينيّ، وهي أساس الحقّ التاريخيّ بالعودة إلى فلسطين المحتلّة في عام 1948؟

سلمان: هذا سؤال مهمّ، ويجب التعامل مع إشكاليّاته. إن كان من بين الشعب الفلسطينيّ، ولا نريد استخدام كلمات قويّة، ولكن إن كان ثمّة من يريد التخلّي عن هويّته الفلسطينيّة، وعن حقّه في العودة، وفي أنّ له وطنًا اسمه فلسطين؛ فمن يكون إذن؟ ذُبابة على السطح؟ أم شحّاذًا؟ ذلك ليس من طبائعنا، ما أقوله، وخاصّة في سياق الحروب الإحدى عشرة الّتي تُشَنّ علينا، هو أنّ مساهمتنا في هذه الحروب لا تقلّ عن أنّها تعاون مع العدوّ واسمه خيانة. لم يكن الجيل الأوّل بعد النكبة في حاجة إلى من يُعلِّمه عن وطنه فلسطين لأنّه خرج منها ورآها، وفي السبعينات والثمانينات كان الشباب فاعلين في المقاومة المسلّحة، ويحاربون من أجل وطن يعرفونه. ولكن، بعدما جاءت أوسلو الّتي هي كارثة أسوأ من وعد بلفور، بدأت العمليّة تتمّ للقضاء علينا باستخدام أناس من الشعب الفلسطينيّ، يدّعون أنّهم يمثِّلوننا وهذه هي الكارثة الكبرى؛ فكيف يمكن القبول بأن تُلغي أيّة جهة فلسطينيّة برامج الدراسة الوطنيّة، ومثال على ذلك، ما حدث بيننا وبين «دائرة التعليم» في وكالة «الأونروا» من نقاش عنيف قبل سنتين، وكذلك قبل أسبوعين؛ بسبب مسابقة تُنظَّم بين مدارس «وكالة الغوث الدوليّة» للشباب بين ستّة عشر وسبعة عشر عامًا، بعنوان «هذه قريتي». طلبنا منهم أن يكتبوا عن قراهم، وثمّة محكّمون وجوائز ماليّة بسيطة، وعندما طلبنا من «الأونروا» أن تسمح لنا بالدخول إلى مدارسها لإعلام الطلّاب بالمسابقة رفضوا ولم يسمحوا بوجودنا، قلنا لهم: أنتم هنا بموجب القرار رقم 302 المؤسِّس لـ«وكالة الغوث الدوليّة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين»، ومن واجبكم حماية حقوق الفلسطينيّين والحفاظ على هويّتهم، فإن كنتم تخافون الضغط الإسرائيليّ - وقد أكّدوا ذلك بوضوح - فأنتم لا تستطيعون القيام بمهامّكم موظّفين دوليّين، فاستقيلوا واذهبوا من هنا. فإن كنت - موظّفًا دوليًّا - لا تستطيع القيام بالدور الموكول إليك، فذلك يعني أنّك خنت الأمانة، وإن كنت تخاف إسرائيل فسنخيفك نحن بالاحتجاج عليك وإيضاح أنّك لا تقوم بالدور الموكول إليك. في النهاية خضعوا قليلًا، ولكنّنا تغلّبنا عليهم عندما طلبنا من الشباب في غزّة الذهاب إلى كلّ مدارس الوكالة، وتوزيع ألفَي نسخة من إعلان المسابقة، من خلال وقوفهم على بوّابات المدارس وتوزيعها على الطلبة غصبًا عن «وكالة الغوث الدوليّة». وقبل قليل وصلني خبر تسجيل ألف وثمانمئة طالب في المسابقة غصبًا عنهم جميعًا، فهذا وطننا، ويجب أن نقاوم العدوّ داخليًّا وخارجيًّا.

 

فُسْحَة: وذلك ما لا يمكن فعله في الضفّة بالطبع؟

سلمان: هذه هي المرحلة الثانية الّتي نأمل أن تتمّ قريبًا.

 

فُسْحَة: بعد الهبّة الأخيرة في عموم فلسطين التاريخيّة، خرجت العديد من الأصوات الإسرائيليّة؛ لتطالب بالعودة إلى النكبة كحدث مؤسّس للعلاقة ما بين الفلسطينيّين والصهاينة، ولتطالب بمواجهة هذا الحدث التاريخيّ وتفكيكه حلًّا لـ«المشكلة العربيّة» في فلسطين المحتلّة. ما موقع النكبة من العقل الصهيونيّ؟ وكيف يُفكَّر فيها في إطار مستقبل الوجود الصهيونيّ؟

سلمان: السبب وراء هذه الأصوات هو ثورة المعلومات الّتي خلقت شرخًا في حائط الصمت المفروض على الحقائق التاريخيّة. فمثلًا، عندما كنت أبحث عن خرائط فلسطين في بريطانيا لم يكن ثمّة كلمة «فلسطين» في قاموس الخرائط، وقيل لي إنّها شُطِبت ووُضعت إسرائيل بدلًا لها. قبل الآن، كان الخبر الصحافيّ يقتصر على خمس وكالات صحافيّة صهيونيّة أو ستّ، أمّا الآن فكلّ شخص في غزّة لديه أو لديها هاتف ذكيّ، يستطيع التصوير من خلاله ليخبر العالم ما الّذي يجري فعلًا. وهذا قاد إلى اعتقاد عدد كبير من الشباب اليهود الأمريكيّين المتعلّمين والمتربّين على الصهيونيّة أنّهم خُدِعوا، وأنّ المعلومات الّتي لديهم هي مجموعة من الأكاذيب الصهيونيّة عن التاريخ، والدين، والواقع، وكلّ شيء آخر، هو مجرّد خديعة. عندما كنت أتكلّم في «هارفرد» أو «بوسطن» أو غيرهما، كان ما يقارب نصف الجمهور من الشباب اليهود، وبعضهم أتى إلى الضفّة الغربيّة وسكن مخيّمات اللاجئين، وأنا أعرف بعضهم. هذه الثورة المعلوماتيّة دفعت الكثيرين ليتساءلوا، ومنهم مثقّفون بارزون للتواصل معنا؛ ليسألوا عن خطّة العودة والمعلومات التاريخيّة الّتي بحوزتنا. ثمّة العديد من المقالات في صحف عالميّة، مثل «التايمز» و«الغارديان» لمثقّفين يهود، الّتي تقول إنّه لا بدّ من مواجهة النكبة والاعتراف بالحقّ الفلسطينيّ، وذلك تطوّر جيّد، ولكن من الضروريّ الانتباه إلى مسألة مهمّة؛ وهي أنّ هذا التيّار يفكّر في هذا الظلم الصهيونيّ على أنّه ينعكس بشكل سيّئ على اليهود؛ وبالتالي يجب معالجته؛ أي أنّه ليس جيّدًا لليهود بالدرجة الأولى. إذن، ثمّة حدّ معيّن لا يتعدّونه؛ وذلك الاعتراف بالجريمة الكبرى؛ أي التطهير العرقيّ. 

في النهاية، ليس لنا غير الشعب الفلسطينيّ المُخلص الّذي لم يتخلَّ عن وطنه، ليس لنا غير الشباب الّذين يستشهدون كلّ يوم، ويُقتلون بدم بارد، أو يُقنَصون في ركبهم ليُحوِّلوا المجتمع الفلسطينيّ إلى مجتمع محطّم. هذه هي ثروتنا الوحيدة، ولكي تكون هذه الثروة فعّالة يجب إزالة كلّ ركام أوسلو، وانتخاب مجلس وطنيّ جديد يمثّل أربعة عشر مليون فلسطينيّ؛ ليُنظَّف البيت الفلسطينيّ بمكنسة ديمقراطيّة. وأعود بك إلى خطاب ألقيته في عام 2009، وما قلته آنذاك هو ما أقوله اليوم؛ أي أنّ الوقت قد حان لتنظيف البيت الفلسطينيّ بمكنسة ديمقراطيّة؛ لإزالة كلّ الفساد، فشعبنا يستحقّ الأفضل بكثير ممّا هو عليه الآن.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.